بيضاء لا شية فيها بقلم الاديب مبارك اسماعيل ودحمد
قصة قصيرة
بيضاء لا شية فيها!
رائحة الجثث المتناثرة في كل الارجاء، تزكم الانوف، وتستغيث بمن يواريها تحت الثرى، بعد معاركنا المحتدمة، وسيل الدماء التي شربتها مسامات التراب.
ما إن حل ليل بعد المعركة الأخيرة التي هزمناهم فيها، قادني التعب والإرهاق والسهر إلى ما تبقى من بيتي، ودون ان التفت إلى تحذيرات مستشاري، الذين كانوا يلحون على أن وقت الراحة والاستلقاء لم بحن بعد والعدو لازال لديه بعض العسكر الذين تطاردهم فيالقنا، لم يكن لي خيار لو كان يعلمون، فقد وجدتني مساق دون إرادتي، وامضي دون أن التفت وانظر إلى وجوهم المنهكة، والقى بجسدي المنهك في فراشي المعتاد. وعندها كانت الرؤيا التي لم تكن مجرد اضغاث احلام بل بشارة وهبتها وَالقت بها السماء الي. فرأيت أرضا بيضاء لاشية فيها، وبلون شفاف تمتد ادغال كثيفة ومخلوقات بيضاء كأنما خلقت لتو ، كائنات لم تألفها العين من قبل. وفي الصباح، قصصت عليهم تفاصيل الرؤيا وخلعت ردائى وبسطته امامي وقلت اخاطبهم :من يستطيع أن يعبرها فليضع سيفه في هذا الرداء قبل أن يتفوه بكلمة ..
احتار مستشاروه ونظر كل منهم للآخر ولاذوا بالصمت، ولما طال صمتهم، خرق الصمت صوت احد المستشارين وهو يضع السيف فوق رداء الملك ، وهو يقول :مولاي انه وعد بارض جديدة.. فالبياض لون الجدة وما قبل أن تسمى الاشياء
صاح الملك :أحسنت التعبير ولتكن رحلتنا إلى أرض الميعاد الجديدة.
توجه مع ما تبقى من رجاله وانعطفوا إلى ماوراء الجبل حيث تركوا نساءهم أطفالهم والشيوخ المسنين.
انطلقوا إلى أرض الرؤيا، وساروا لبضعة ايام، ولما بلغ بهم التعب وحيرة التيه، صاح وهو يرفع يده مستسلما :دعونا نستريح قليلا عسى ان يلوح لنا بارق يضئ لنا مشارف الأرض الموعودة. نصبوا له خيمة، ودخل خيمته واستلقي على الفراش وهو يستجدي النوم دون جدوى، فجأة تناهي إلى سمعه صوت أقرب للهمس :انت اقرب إليها من دفء أنفاس خليلتك.. فلتنتهي حيرتك هنا فلتنعطف نحوها وتبني مدينتك الجديدة.
نهض كلملسوع من فراشه ومد راسه خارج الخيمة وصاح :بشراكم لاحت مشارف الموعودة وهاهي نفحات نسماتها العطرة تنتشي منها انفاسي.
ماإن وصل الركب، حتى تسابق الرجال في تشييد قصره، في المكان الذي انتهت إليه خطوات فرسه.
وازدحمت إيام المدينة بالعمل الدؤوب وتشكلت معالمها البهية وتطاول بنيانها.
وفي ليلة تمتعه بجاريته البكر التي اكتراها اخيرا، واحساسه بالانهاك غرق في نوم عميق.
وحلم بجحافل جيش عدوه اللدود بزيهم وعمائمهم المميزة، وهو يتقدم جحافل جيشه في الناحية الأخرى، استعدادا للمعركة. ثم عندما صرخ قائد جيش عدوه وتسابق كل الجند من الطرفين وهمت الاذرع ان تستل السيوف، انفلتت من إياديهم بغتة، وتطايرت فوق روؤسهم وانغرزت بعيدا، ترآت له من مكانه كاشجار تتنامى وتتطاول جذوعها.
وعلى غير عادته، لم يأمر بحشد الرعية، واكتفى بأخبار مستشاريه، وقد اختار ان تكون سياسة مدينته الجديدة.. نزع الأسلحة والركون إلى السلم والطمأنينة، في مدينته والمدن الأخرى.
وفي اول اجتماع بعد ترويج سياسته الجديدة، مع مستشاريه وقادة العسكر، تعالت أصواتهم محتجين :وماذا لو غزانا جيش العدو بغتة.. بماذا سنقاتلهم بسيوف العشر؟
وماذا لو حدث تمرد داخلي كيف سنخمده؟
تجادل قادة العسكر وأوشكوا أن يخرجوا عن حدود الأدب والتأدب في حضرته.
فاندفع احد مستشاره، ووقف في مسافة بينهم وجلالة ملكه، وصاح فيهم :احتجاجكم عصيان ومخالفة للرؤياء، والتفت إليه قائلا :ستكون مدينتنا كما حلمت بها بيضاء لاشية فيها. ثم سحب سيفه من الغمد ووضعه برفق تحت قدمي الملك.
تنحى البعض جانبا يتهامسون، ثم بإجماع واصرار صاحوا :لن نتخلص منها
_إذن ستغادروا مدينتنا إن لم تلتزموا بسياستنا الجديدة
_إين سنذهب ونحن من عمر هذه الأرض
_اذن ستكون معركتنا الأخيرة هنا معكم.
خرجوا من عنده يدمدمون وتغلي صدورهم بالغيظ والغل. وفي ساحة وسط المدينة، أخذوا يحيكون مؤامرتهم، وقبل أن تحتشد صفوفهم للقتال احاط بهم عسكره، ولم يكن أمامهم غير خيارين الاستسلام او الموت انتحارا.
كان يقف بكامل زينته على شفا الحفرة من حوله الرعية عن بكرة أبيها تحيط بها من كل النواحي وبهمة وحماس يرمون بكل أسلحة القتال بأنواعها، ولايستبقون غير سكاكين وخناجر إعداد الطعام.
افتتح سكب الكاز في اكوام الأسلحة وتبعه الآخرون، وهم بأن يشعل النار، تناهى إلى اسماعهم أصوات غامضة تأتي من بعيد وجحافل يترآى غبار خيولها في مشارف مدينته التي حلم بها بيضاء لاشية فيها.!
مبارك اسماعيل ودحمد.
تعليقات
إرسال تعليق